كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطأ. بل ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما. كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} [النساء: 92] الآية. ثم قال في العمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] الآية، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة، وكقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] الآية. فلم يجعل فيها بين الخطأ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل.
واحتج الجمهو على أن هناك واسطة بين الخطأ والمحض، والعمد المحض، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين:
الأول: أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالبًا وهو قاصد للضرب معتقدًا أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب. ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل. لأنه ما كان يقصد القتل، بل وقع القتل من غير قصده إياه.
والثاني: حديث دل على ذلك، وهو ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا سليمان بن حرب، ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال مسدد: خطب يوم الفتح بمكة، فكبر ثلاثًا ثم قال: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» إلى ها هنا حفظته عن مسدد، ثم اتفقا: «ألا أن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدميَّ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت» ثم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» وحديث مسدد أتم.
حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه.
حدثنا مسدد، ثنا عبد الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، ان ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أو فتح مكة على درجة البيت أو الكعبة.
قال أو داود: كذا رواه ابن عيينة أيضاَ عن علي بن زيد، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
رواه ايوب السختيانين عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر مثل حديث خالد ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يعقول الدّوسي، عن عبد الله بن عمرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم. اهـ محل الغرض من سنن أبي داود.
وأخرج النسائي نحوه، وذكر الاختلاف على ايوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك. وقد تركنا لفظ كلامه لطوله.
وقال ابن ماجه رحمه اله في سننه: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر قالا: حدثنا شعبة، عن أيوب: سمعت القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصاء مائة من الإبل: أربعون منها خلفة في بطونها أولادها».
حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن خالد الحذَّاء عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، سمعه من القاسم بن رعة عن ابن عمرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا إنّ الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل: منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» اهـ.
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها على بن زيد بن جدعان: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: حضرت مجلس المزني يومًا وساله سائل من العراقيين عن شبه العمد. فقال السائل: إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين: عمدًا وخطأ. فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف؟ ولم قلتم شبه العمد؟ فاحتج المزني بهذالحديث فقال له مناظره: أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان؟ فسكت المزني. فقلت لمناظره: قد روى هذا الخبر غير علي ين زيد.
فقال: ومن رواه غير علي؟ قلت: رواه أيوب السختياني وخالد الحذَّاء. قال لي: فمن عقبة بن أوس؟ فقلت: عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة، وقد رواه عنه محمد بن سرين مع جلالته. فقال للمزني: أنت تناظر! أو هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر. لأنه أعلم بالحديث مني، ثم أتكلم أنا. اهـ ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور.
قال مقيدة عفا الله عنه: لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد. ان الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأن الرواية عن ابن عمر وهم، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان. لأنه ضعيف.
والمعروف في علوم الحديث: أن الحديث إذا جاء صحيحًا من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح. والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن خزيمة للعراقي الذي ناظر المزني، تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة.
قال مقيده عفا الله عنه: إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل: هل هي ثلاث، أو اثنتان؟ وعرفت حجج الفريقين- فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنا ثلاث حالات: عمد محض، وخطأ محض، وشبه عمد. لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين. والحديث إنما أثبت شيئًا سكت عنه القرآن، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله. لأن المقرر في اصوله أن الزيادة على النص نسخ، وأن المتواتر لا ينسخ بالحاد. كما تقدم إيضاحه في سورة: الأنعام ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة، خلافًا لمالك كما تقدم.
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث- فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص. وقد قدمنا حكم العفو فيه. والخطأ شبه العمد. والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة.
واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما. وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية، وفي شبه العمد. وفي الخطأ المحض.
اعلم أن الجمهور على ان الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء. واختلفوا في أسنانها فيهما. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعًا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة، والوراية المشهورة عن أحمد، وهو قولالزهري، وربيعة، وسليمان ابن يسار، ويروى عن ابن مسعود. كما تقله عنهم ابن قدامى في المغني.
وذهبت جماعة إخرى إلى أنها ثلاثون حقة، وثلاتون جذعة، وأربعون في بطونها أولادها.
وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاءن ومحمد بن الحسن، وروي عن عمر، وزيد، وأبي موسى، والمغيرة. ورواه جماعة عن الإمام أحمد.
قال مقيدة عفا الله عنه: وهذا القول هو الذي يقتضي الدلي رجحانهز لما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص عند أبي داود، والنسائي، وابن ماجه: من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» وبعض طرقه صحيح كما تقدم.
وقال البيهقي في بيان الستين التي لم تيعرض لها هذا الحديث: (باب صفة الستين التي مع الأربعين) ثم ساق أسانيده عن عمر، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، وأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.
وقال ابن قدامة في المغني مستدلًا لهذا القول: ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمنًا متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة، وقلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا فهم لهم» وذلك لتشديد القتل. رواه الترمذي وقال: هو حديث حسن غريب. اهـ محل الغرض منه بلفظه، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا.
ثم قال مستدلًا للقول الأول: ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعًا: خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين بنت لبون، وخمسًا وغشرين بنت مخاض وهو قول ابن مسعود. اهـ منه.
وفي الموطأ عن مالك: أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقه، وخمس وعشرون جذعة. وقد قدمنا: ان دية العمد، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور.
وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا. منها ما رواه البيهقي، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال: الدية في شبه العمد أثلاث: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاث وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها، وكلها خلفة.
بومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضًا: أنها أرباع: ربع بنات لبون، وربع حقاق وربع جذعة، وأربعين خلفة في بطونها أولادها.
وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد ان ساق الأقوال المذكورة ما نصه: قد اختلفوا هذا الاختلاف، وقوله من يوافق سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبلة أولى بالاتباع، وبالله التوفيق.
تنبيه:
اعلم أن الدية في العمد الحض غذا عفا أولياء المقتول: إنما هي في مال الجاني، ولا تحملها العاقلة إجماعًا.
وأظهر القولين: أنها حالة غير منجمة في سنين. وهو قول جمهور أهل العلم. وقيل بتنجيمها.
وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلًا. بلا الواجب فيه ما اتفق عليه الجاني وأولياء المقتول، قليلًا كان أو كثيرًا، وهو حال عنده.
أما الديو في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية.
وقال بعض أهل العلم: ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية، وهي على العقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد رحمهم الله. وبه قال الشعبي والنخعي، والحكم، والثوري، وبان المنذر وغيرهم. كما نقله عنهم صاحب المغني وهذا القول هو الحق.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبة العمد في مال الجاني لا على العاقلة. لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل. وبهذا قال ابن سرين، والزهري، والحارث العكلي، وابن شبرمة، وقتادة، وأبو ثور، واختاره أبو بك عبج العزيز. اهـ من المغني لابن قدامة. وقد علمت أن الصواب خلافه. لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك.
أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلًا. فهي عنده عمد محض كما تقدم.
وأما الدية في الخطأ المخض فهو أخماس في قوله أكثر أهل العلم.
واتفق اكثرهم على السن والصنف في أربع منها، واختلفوا في الخامس. أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة، وعشرون حقة، وهشرون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض. وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول: هو عشرون ابن مخاض ذكرًا. وهو مذهب أحمد، وأبي حنيفة، وبه قال ابن مسعود، والنخعي وابن المنذر. واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوادر بذلك.
قال أبو داود في سننه: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الواحد، ثنا الحجاج عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكرًا» وهو قوله عبد الله انتهى منه بلفظه.
وقال النسائي في سننه: أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي قال: سمعت ابن مسعود يقول: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين ابن مخاض ذكورًا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جَذَعة، وعشرين حِقَّة.
وقال ابن ما جة في سننه: حدثنا عبد السلام بن عاصم، ثنا الصبَّاح بن محارب، ثنا حجاج بن أرطاة، ثنا زيد بن جبير، عن خشف بن مالك الطائي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخا ذكورًا» ونحو هذا أخرجه الترمذي ايضًا عن ابن مسعود.
وأخرج الجار قطني عنه نحوه. إلا أن فيه: وعشرون بني لبون بدل بني مخاض.
وقال الحافظ في بلوغ المرام: إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة. وقال: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفًا، وهو أصح من المرفوع.
وأما القول الثاني في هذا الاخامس المختلف فيه- فهو أنه عشرون ابن لبون ذكرًا، مع عشرين جذعة، وعشرين حقة، وعشرين بنت لبون، وعشرين بنت مخاض. وهذا هو مذهب مالك والشافعي. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وسليمان بن يسار، والزهري، والليث، وربيعة. كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وقال: رواه سعيد في سننه عن النخعي، عن ابن مسعود.